فصل: غَزْوَةُ تَبُوكَ وَسَبَبُهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ}
هَذَا السِّيَاقُ مِنْ هُنَا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَمَا كَانَتْ وَسِيلَةً لَهُ مِنْ هَتْكِ أَسْتَارِ النِّفَاقِ، وَتَطْهِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عَوَامِلِ الشِّقَاقِ. إِلَّا الْآيَتَيْنِ فِي آخِرِهَا، وَمَا يَتَخَلَّلُهَا مِنْ بَعْضِ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ، عَلَى السُّنَّةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ. وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ الْمُرَادَ قِتَالُهُمْ فِي تَبُوكَ: هُمُ الرُّومُ وَأَتْبَاعُهُمُ الْمُسْتَعْبَدُونَ مِنْ عَرَبِ الشَّامِ، وَكُلُّهُمْ مِنَ النَّصَارَى الَّذِينَ نَزَلَتِ الْآيَاتُ الْأَخِيرَةُ فِي حُكْمِ قِتَالِ الْيَهُودِ وَقِتَالِهِمْ، وَبَيَانِ حَقِيقَةِ أَحْوَالِهِمْ، وَأَهَمُّهَا خُرُوجُهُمْ عَنْ هِدَايَةِ دِينِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي كُلٍّ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ. وَكَانَ ذِكْرُ النَّسِيءِ فِي آخِرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنَّنَا نُقَدِّمُ عَلَى تَفْسِيرِ الْآيَاتِ بَيَانَ سَبَبِ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَفَاءً بِمَا وَعَدْنَا بِهِ فَنَقُولُ:

.غَزْوَةُ تَبُوكَ وَسَبَبُهَا:

تَبُوكُ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ فِي مُنْتَصَفِ الطَّرِيقِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ وَدِمَشْقَ تَقْرِيبًا. وَقَالُوا: إِنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرْحَلَةً، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ دِمَشْقَ إِحْدَى عَشْرَةَ مَرْحَلَةً، وَاللَّفْظُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ عَلَى الْأَشْهَرِ.
قَالَ الْحَافِظُ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَكَانَ السَّبَبُ فِيهَا- أَيِ الْغَزْوَةِ- مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ وَشَيْخُهُ وَغَيْرُهُ قَالُوا: بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَنْبَاطِ الَّذِي يَقْدَمُونَ بِالزَّيْتِ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَنَّ الرُّومَ جَمَعَتْ جُمُوعًا، وَأَجْلَبَتْ مَعَهُمْ لَخْمَ وَجُذَامَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ مُتَنَصِّرَةِ الْعَرَبِ، وَجَاءَتْ مُقَدِّمَتُهُمْ إِلَى الْبَلْقَاءِ. فَنَدَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَى الْخُرُوجِ، وَأَعْلَمَهُمْ بِجِهَةِ غَزْوِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: كَانَتْ نَصَارَى الْعَرَبِ كَتَبَتْ إِلَى هِرَقْلَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي خَرَجَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ هَلَكَ، وَأَصَابَتْهُمْ سِنُونَ فَهَلَكَتْ أَمْوَالُهُمْ، فَبَعَثَ رَجُلًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يُقَالُ لَهُ قَبَادُ وَجَهَّزَ مَعَهُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ قُوَّةٌ، وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ جَهَّزَ عِيرًا إِلَى الشَّامِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذِهِ مِائَتَا بَعِيرٍ بِأَقْتَابِهَا وَأَحْلَاسِهَا وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ- أَيْ مِنَ الْفِضَّةِ- قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «لَا يَضُرُّ عُثْمَانُ مَا عَمِلَ بَعْدَهَا» وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُبَابٍ نَحْوَهُ. وَذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ فِي (شَرَفِ الْمُصْطَفَى) وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَالْحَقْ بِالشَّامِ فَإِنَّهَا أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَأَرْضُ الْأَنْبِيَاءِ. فَغَزَا تَبُوكَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الشَّامَ، فَلَمَّا بَلَغَ تَبُوكَ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} (17: 76) الْآيَةَ. انْتَهَى.
وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ مَعَ كَوْنِهِ مُرْسَلًا. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ، وَالصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ فِي السَّبَبِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَمَا نَدْرِي مَنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا قَالُوا؟ وَكَانَ هَذَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَإِجْلَائِهِمْ. وَالْعَجِيبُ مِنَ الْحَافِظِ كَيْفَ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ حَسَنٌ مَعَ قَوْلِهِ فِي شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ فِي التَّقْرِيبِ إِنَّهُ كَثِيرُ الْإِرْسَالِ وَالْأَوْهَامِ، وَعِلْمِهِ وَنَقْلِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَطَاعِنِ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ؟ وَقَدْ صَرَّحَ السُّيُوطِيُّ بِضَعْفِ الْحَدِيثِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ. وَفِي كُتُبِ السِّيَرِ أَنَّ مَا بَذَلَهُ عُثْمَانُ رضي الله عنه فِي تَجْهِيزِ جَيْشِ الْعُسْرَةِ أَكْثَرَ مِمَّا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ.
وَقَدْ كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَائِذٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَتْ بَعْدَ الطَّائِفِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ يَجْعَلُ السِّتَّةَ الْأَشْهُرَ بَعْدَ عَوْدَتِهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الطَّائِفِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَهُوَ صلى الله عليه وسلم قَدْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ.
قالهُ الْحَافِظُ.
وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّمْهِيدِ لِتَفْسِيرِ الْآيَاتِ أَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْغَزْوَةِ اسْتِعْدَادُ الرُّومِ لِقِتَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِعْدَادُ جَيْشٍ كَثِيفٍ لِلزَّحْفِ بِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَهِيَ كَسَائِرِ غَزَوَاتِهِ صلى الله عليه وسلم دِفَاعٌ لَا اعْتِدَاءٌ، وَلَمَّا لَمْ يَجِدْ مَنْ يُقَاتِلُهُ عَادَ، وَلَمْ يُهَاجِمْ شَيْئًا مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، وَكَانَ الْأَمْرُ بِهَا لِمَا سَيُذْكَرُ مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ.
قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} الِاسْتِفْهَامُ فِي الْآيَةِ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي جُمْلَتِهِمْ تَرْبِيَةً لَهُمْ بِمَا لَعَلَّهُ وَقَعَ مِنْ مَجْمُوعِهِمْ لَا مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَمِنْهُمُ الضُّعَفَاءُ وَالْمُنَافِقُونَ. وَالنَّفْرُ وَالنَّفِيرُ عِبَارَةٌ عَنْ فِرَارٍ مِنَ الشَّيْءِ أَوْ إِقْدَامٍ عَلَيْهِ بِخِفَّةٍ وَنَشَاطٍ وَانْزِعَاجٍ، فَهُوَ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ بِمَعْنَى الْفَزَعِ إِلَيْهِ أَوْ مِنْهُ. يُقَالُ: نَفَرَتِ الدَّابَّةُ وَالْغَزَالُ نُفُورًا، وَنَفَرَ الْحَجِيجُ مِنْ عَرَفَاتٍ نَفْرًا، وَاسْتَنْفَرَ الْإِمَامُ الْعَسْكَرَ إِلَى الْقِتَالِ أَوْ أَعْلَنَ النَّفِيرَ الْعَامَ فَنَفَرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا، وَالتَّثَاقُلُ التَّبَاطُؤُ فَهُوَ ضِدُّ النَّفْرِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الثِّقَلِ الْمُقْتَضِي لِلْبُطْءِ، وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لِدَعْوَةِ النَّفِيرِ، وَعَلَى مَنْ حَاوَلَ أَوِ اسْتَجَابَ مُتَبَاطِئًا. وَأَصْلُ {اثَّاقَلْتُمْ} تَثَاقَلْتُمْ، أُدْغِمَتِ الْمُثَنَّاةُ فِي الْمُثَلَّثَةِ فَجِيءَ بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ لِأَجْلِ النُّطْقِ بِالسَّاكِنِ، وَالْعَرَبُ لَا تَبْدَأُ بِالسَّاكِنِ، وَلَا تَقِفُ عَلَى الْمُتَحَرِّكِ، وَقَدْ عُدِّي بـ {إِلَى} لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى التَّسَفُّلِ وَالْإِخْلَادِ إِلَى الْأَرْضِ وَالْمَيْلِ إِلَى رَاحَتِهَا وَنَعِيمِهَا.
وَلَمَّا دَعَا اللهُ الْمُؤْمِنِينَ لِغَزْوَةِ تَبُوكَ كَانَ الزَّمَنُ زَمَنَ الْحَرِّ، وَكَانُوا قَرِيبِي عَهْدٍ بِالرُّجُوعِ مِنْ غَزْوَتَيِ الطَّائِفِ وَحُنَيْنٍ، وَكَانَتِ الْعُسْرَةُ شَدِيدَةً، وَكَانَ مَوْسِمُ الرُّطَبِ فِي الْمَدِينَةِ قَدْ تَمَّ صَلَاحُهُ، وَآنَ وَقْتُ تَلَطُّفِ الْحَرِّ وَالرَّاحَةِ؛ لِأَنَّ شَهْرَ رَجَبٍ وَافَقَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ بُرْجَ الْمِيزَانِ وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِالصَّيْفِ.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ: هَذَا حِينَ أُمِرُوا بِغَزْوَةِ تَبُوكَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَحُنَيْنٍ وَبَعْدَ الطَّائِفِ، بِأَمْرِهِمُ النَّفِيرَ فِي الصَّيْفِ حِينَ اخْتَرَقَتِ النَّخْلُ وَطَابَتِ الثِّمَارُ، وَاشْتَهُوا الظِّلَالَ وَشَقَّ عَلَيْهِمُ الْمَخْرَجُ. (قَالَ) فَقَالُوا: مِنَّا الثَّقِيلُ وَذُو الْحَاجَةِ وَالضَّيْعَةِ وَالشُّغْلِ وَالْمُنْتَشِرُ بِهِ أَمْرُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَكَانَ مِنْ عَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ إِلَى غَزْوَةٍ أَنْ يُوَرِّيَ بِغَيْرِهَا لِمَا تَقْتَضِيهِ مَصْلَحَةُ الْحَرْبِ مِنَ الْكِتْمَانِ، إِلَّا أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ قَدْ صَرَّحَ بِهَا؛ لِيَكُونَ النَّاسُ عَلَى بَصِيرَةٍ لِبُعْدِ الشُّقَّةِ وَقِلَّةِ الزَّادِ وَالظَّهْرِ. فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا شَقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْخُرُوجُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ، وَكَانَتْ حِكْمَةُ اللهِ تَعَالَى فِي إِخْرَاجِهِمْ- وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَلْقَوْنَ فِيهَا قِتَالًا- مَا سَنُبَيِّنُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِهَا مِنْ تَمْحِيصِ الْمُؤْمِنِينَ، وَخِزْيِ الْمُنَافِقِينَ، وَفَضِيحَتِهِمْ فِيمَا كَانُوا يُسِرُّونَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَتَرَبُّصِهِمُ الدَّوَائِرَ بِالْمُؤْمِنِينَ.
وَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ مَاذَا عَرَضَ لَكُمْ مِمَّا يُنَافِي صِحَّةَ الْإِيمَانِ أَوْ كَمَالِهِ الْمُقْتَضِي لِلْإِذْعَانِ وَالطَّاعَةِ، حِينَ قَالَ لَكُمُ الرَّسُولُ: انْفرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لِقِتَالِ الرُّومِ الَّذِينَ تَجَهَّزُوا لِقِتَالِكُمْ، وَالْقَضَاءِ عَلَى دِينِكُمُ الْحَقِّ، الَّذِي هُوَ السَّبِيلُ الْمُوَصِّلُ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَإِقَامَةِ شَرْعِهِ وَسُنَنِهِ، فَتَثَاقَلْتُمْ عَنِ النُّهُوضِ بِالنَّشَاطِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ، مُخْلِدِينَ إِلَى أَرْضِ الرَّاحَةِ وَاللَّذَّةِ، وَآيَةُ الْإِيمَانِ بِذَلِكَ الْجِهَادُ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (49: 15).
{أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} أَيْ: أَرَضِيتُمْ بِرَاحَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَذَّتِهَا النَّاقِصَةِ الْفَانِيَةِ بَدَلًا مِنْ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ الْكَامِلَةِ الْبَاقِيَةِ؟ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدِ اسْتَبْدَلْتُمُ الَّذِي هُوَ أَدْنَأُ وَأَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} أَيْ: فَمَا هَذَا الَّذِي يُتَمَتَّعُ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مُنَغَّصًا بِالشَّوَائِبِ وَالْمَتَاعِبِ فِي جَنْبِ مَا فِي الْآخِرَةِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَالرِّضْوَانِ الْإِلَهِيِّ الْعَظِيمِ، إِلَّا شَيْءٌ قَلِيلٌ لَا يَرْضَاهُ عَاقِلٌ بَدَلًا مِنْهُ، وَإِنَّمَا يُؤْثِرُهُ عَلَيْهِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ، وَقَدْ شَبَّهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَعِيمَ الدُّنْيَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ وَفِي قِلَّتِهِ فِي نَفْسِهِ وَزَمَنِهِ بِمَنْ وَضَعَ أَصْبُعَهُ فِي الْيَمِّ ثُمَّ أَخْرَجَهَا مِنْهُ قَالَ: «فَانْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ»؟ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ.
{إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} {إِلَّا} مُرَكَّبَةٌ مِنْ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ ولَا النَّافِيَةُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ كَإنْ لَمْ لِلْمَاضِي أَيْ: إِلَّا تَنْفِرُوا كَمَا أَمَرَكُمُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم يُعَذِّبْكُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا يُهْلِكْكُمْ بِهِ بِعِصْيَانِكُمْ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ، وَيَسْتَبْدِلْ بِكُمْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ، قِيلَ: كَأَهْلِ الْيَمَنِ وَأَبْنَاءِ فَارِسَ، وَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ لِلتَّهْدِيدِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الشَّرْطُ وَلَا جَزَاؤُهُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ قَوْمٌ يُطِيعُونَهُ وَيُطِيعُونَ رَسُولَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَعَدَ بِنَصْرِهِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَيْدِيكُمْ، فَلابد أَنْ يَكُونَ بِأَيْدِي غَيْرِكُمْ {وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ} (22: 47) قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ} (5: 54) الْآيَةَ، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلْأُمَمِ الَّتِي تَتَثَاقَلُ عَنِ الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهَا، وَحِفْظِ حَقِيقَتِهَا وَسِيَادَتِهَا، وَلَا تَتِمُّ فَائِدَةُ الْقُوَّةِ الدِّفَاعِيَّةِ وَالْهُجُومِيَّةِ إِلَّا بِطَاعَةِ الْإِمَامِ وَالْقَائِدِ الْعَامِّ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْإِمَامُ وَالْقَائِدُ هُوَ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ مِنْ رَبِّهِ الْعَزِيزِ الْقَدِيرِ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ، وَهَلَاكِ مَنْ عَصَاهُ وَخَذَلَهُ؟.
{وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} أَيْ: وَلَا تَضُرُّوهُ تَعَالَى شَيْئًا مَا مِنَ الضَّرَرِ فِي تَثَاقُلِكُمْ عَنْ طَاعَتِهِ وَنُصْرَةِ رَسُولِهِ؛ لِأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَنْ يَبْلُغَ أَحَدٌ ضُرَّهُ وَلَا نَفْعَهُ، بَلْ هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَكُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُسَخَّرٌ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَعَلَ لِلْبَشَرِ شَيْئًا مِنَ الِاخْتِيَارِ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَلْقَوْنَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ: وَلَا تَضُرُّوا رَسُولَهُ بِتَثَاقُلِكُمْ فَإِنَّهُ عَصَمَهُ مِنَ النَّاسِ، وَكَفَلَ لَهُ النَّصْرَ بِقَرِينَةِ الْآيَةِ الْآتِيَةِ: وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمِنْهُ إِهْلَاكُكُمْ إِنْ أَصْرَرْتُمْ عَلَى الْعِصْيَانِ، وَتَوَلَّيْتُمْ عَنْ إِقَامَةِ دِينِهِ، وَإِتْمَامِ نُورِهِ، وَنَصْرِ رَسُولِهِ بِقَوْمٍ آخَرِينَ {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} (5: 54) كَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْقِتَالِ: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (47: 38) وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنَ الرَّوَافِضِ أَنَّهُ لَوْلَا ثَبَاتُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ وَالنَّفَرِ الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَ بَغْلَةِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ لَقُتِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَذَهَبَ دِينُهُ فَلَمْ تَقُمْ لَهُ قَائِمَةٌ، وَاللهُ أَكْبَرُ مِنْ جَهْلِهِمْ، وَرَسُولُهُ أَعْظَمُ عِنْدَهُ مِمَّنْ ثَبَتَ، وَمِمَّنْ لَمْ يَثْبُتْ حَوْلَ بَغْلَتِهِ، وَوَعْدُهُ أَصْدَقُ مِنْ غُلُوِّهِمْ فِي رَفْضِهِمْ، وَهَاكَ مِنْ حُجَجِ كِتَابِهِ مَا يَزِيدُ شُبْهَةَ بِدْعَتِهِمُ افْتِضَاحًا، وَحُجَّةَ السُّنَّةِ وَأَهْلِهَا اتِّضَاحًا.
قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ: إِلَّا تَنْصُرُوا الرَّسُولَ الَّذِي اسْتَنْفَرَكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ عَلَى مَنْ أَرَادُوا قِتَالَهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ فَسَيَنْصُرُهُ اللهُ بِقُدْرَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ، كَمَا نَصَرَهُ إِذْ أَجْمَعَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْفَتْكِ بِهِ، وَأَخْرَجُوهُ مِنْ دَارِهِ وَبَلَدِهِ. أَيِ: اضْطَرُّوهُ إِلَى الْخُرُوجِ وَالْهِجْرَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَخْرُجْ- وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي التَّنْزِيلِ ذِكْرُ إِخْرَاجِ.
{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)}
الْمُشْرِكِينَ لِلرَّسُولِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ تَوَلَّوْا طَرْدَهُمْ وَإِخْرَاجَهُمْ مُجْتَمِعِينَ وَلَا مُتَفَرِّقِينَ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ خَرَجَ مُسْتَخْفِيًا كَمَا خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ صَاحِبِهِ رضي الله عنه أَوْ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّصْرَ فِي كُلِّ حَالٍ وَكُلِّ وَقْتٍ، حَتَّى نَصَرَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مَعَهُ جَيْشٌ وَلَا أَنْصَارٌ مِنْكُمْ، بَلْ حَالَ كَوْنِهِ {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أَيْ: أَحَدُهُمَا، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا التَّعْبِيرِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْأَوَّلِيَّةُ وَلَا الْأَوْلَوِيَّةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا ثَانٍ لِلْآخَرِ، وَمِثْلُهُ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَرَابِعُ أَرْبَعَةٍ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ بِهِ تَمَّ هَذَا الْعَدَدُ. عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِيهِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ، وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي، وَلَا الثَّالِثِ أَوِ الرَّابِعِ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ: «مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا»؟ {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} أَيْ: فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ فِيهِ الِاثْنَانُ فِي الْغَارِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَكُمْ وَهُوَ غَارُ جَبَلِ ثَوْرٍ {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} أَيْ: إِذْ كَانَ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ الَّذِي هُوَ ثَانِيهِ وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه حِينَ رَأَى مِنْهُ أَمَارَةَ الْحُزْنِ وَالْجَزَعِ، أَوْ كُلَّمَا سَمِعَ مِنْهُ كَلِمَةً تَدُلُّ عَلَى الْخَوْفِ وَالْفَزَعِ: لَا تَحْزَنْ، الْحُزْنُ انْفِعَالٌ نَفْسِيٌّ اضْطِرَارِيٌّ يُرَادُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ مُجَاهَدَتُهُ، وَعَدَمُ تَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَيْهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْحُزْنِ وَهُوَ تَأَلُّمُ النَّفْسِ مِمَّا وَقَعَ، يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الْخَوْفِ مِمَّا يُتَوَقَّعُ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنِ الْمَاضِي بِصِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ (يَقُولُ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّكْرَارِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَلِاسْتِحْضَارِ صُورَةِ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لِيَتَمَثَّلَ الْمُخَاطَبُونَ مَا كَانَ لَهَا مِنْ عَظْمَةِ الشَّأْنِ، وَعَلَّلَ هَذَا النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللهَ مَعَنَا} أَيْ: لَا تَحْزَنْ؛ لِأَنَّ اللهَ مَعَنَا بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ وَالْحِفْظِ وَالْعِصْمَةِ، وَالتَّأْيِيدِ وَالرَّحْمَةِ، وَمَنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى مَعَهُ بِعِزَّتِهِ الَّتِي لَا تُغْلَبُ وَقُدْرَتِهِ الَّتِي لَا تُقْهَرُ، وَرَحْمَتِهِ الَّتِي قَامَ وَيَقُومُ بِهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَهُوَ حَقِيقٌ بِأَلَّا يَسْتَسْلِمَ لِحُزْنٍ وَلَا خَوْفٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَعِيَّةِ الرَّبَّانِيَّةِ أَعْلَى مِنْ مَعِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ لِلْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ فِي قَوْلِهِ: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (16: 127، 128) وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَعِيَّةَ فِي آيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ لِجَمَاعَةِ الْمُتَّقِينَ الْمُجْتَنِبِينَ لِمَا يَجِبُ تَرْكُهُ وَالْمُحْسِنِينَ لِمَا يَجِبُ فِعْلُهُ، فَهِيَ مُعَلَّلَةٌ بِوَصْفٍ مُشْتَقٍّ هُوَ مُقْتَضَى سُنَّةِ اللهِ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ لِكُلِّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْحُزْنِ قَبْلَهَا لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا الْمَعِيَّةُ هُنَا فَهِيَ لِذَاتِ الرَّسُولِ وَذَاتِ صَاحِبِهِ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِوَصْفٍ هُوَ عَمَلٌ لَهَا بَلْ هِيَ خَاصَّةٌ بِرَسُولِهِ وَصَاحِبِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ صَاحِبُهُ، مَكْفُولَةٌ بِالتَّأْيِيدِ بِالْآيَاتِ، وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَكِبَرِ الْعِنَايَاتِ، إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ بِمَقَامِ سُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، الَّتِي يُوَفَّقُ لَهَا الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ الْمُتْقِنِينَ لِلْأَعْمَالِ. يُعْلَمُ هَذَا التَّفَاوُتُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ مِنَ الْحَقِّ الْوَاقِعِ إِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنَ اللَّفْظِ وَحْدَهُ، وَهِيَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ إِذْ أَرْسَلَهُمَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَأَظْهَرَا الْخَوْفَ مِنْ بَطْشِهِ بِهِمَا: {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (20: 45، 46) وَقَدْ كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ أَكْمَلَ مِنْهُمَا إِذْ لَمْ يَخَفْ مِنْ قَوْمِهِ الْخَارِجِينَ فِي طَلَبِهِ لِلْفَتْكِ بِهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَكَانَ لِلصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ بِهِمَا إِذْ خَافَ عَلَى خَلِيلِهِ وَصَفِيِّهِ الَّذِي شَرَّفَهُ اللهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْفَذِّ بِصُحْبَتِهِ، وَإِنَّمَا نَهَاهُ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحُزْنِ لَا عَنِ الْخَوْفِ، وَنَهَى اللهُ مُوسَى وَهَارُونَ عَنِ الْخَوْفِ لَا عَنِ الْحُزْنِ؛ لِأَنَّ الْحُزْنَ تَأَلُّمُ النَّفْسِ مِنْ أَمْرٍ وَاقِعٍ، وَقَدْ كَانَ نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُ عَنْهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَدْرَكَ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ الْغَارَ بِالْفِعْلِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَارِ فَرَأَيْتُ آثَارَ الْمُشْرِكِينَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ لَأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمِهِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا»؟ وَأَمَّا الْخَوْفُ فَهُوَ انْفِعَالُ النَّفْسِ مِنْ أَمْرٍ مُتَوَقَّعٍ، وَقَدْ نَهَى اللهُ رَسُولَيْهِ عَنْهُ قَبْلَ وُقُوعِ سَبَبِهِ وَهُوَ لِقَاءُ فِرْعَوْنَ وَدَعْوَتُهُ إِلَى مَا أَمَرَهُمَا بِهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْحُزْنِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الْخَوْفِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ كَانَ الصِّدِّيقُ خَائِفًا وَحَزِنًا كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ، وَهُوَ مُقْتَضَى طَبْعِ الْإِنْسَانِ.